مقالات

ثلاثية الأخوّة سبيل تحقيق السلام و الأمان | قراءة في فكر الشيخ أحمد صِدّيق

(الرئيس العام لجمعية نهضة العلماء 1984-1991مـ)

تواجهنا منذ قديم من الزمان وإلى حدّ الآن صراعاتٌ مستمرّة بين الأمّة الإسلامية بمقتضى اختلاف المعتقدات والفرق وباسم اختلاف الشعوب والقبائل وما إلى ذلك، رغم أنّ الله تعالى قد نبّهنا عن ذلك منذ خمسة عشر قرنا في محكم كتابه “إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبآئل لتعارفوا….” (الحجرات:13). وأكّد هذا التنبيه رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله “اختلاف أمتي رحمة”. فقد شغّلت هذه الصراعات المستمرّة الأمّة الإسلامية عن التنافس واللحاق بأمم أخرى ونسيت تأخّرَهم عنهم لاشتغالهم بفكّ النزاعات وحلّ الصراعات التي تحدث بينهم.   

وقفت أمام بعض العلماء ومفكّري الإسلام تساؤلات، من ذلك ما جاء في موضوع تأليف شكيب أرسلان الموسوم بـ” لماذا تأخّر المسلمون وتقدّم غيرهم؟”، وحاولوا البحث عن الإجابة عنها، فظهرت من خلالها حركة التجديد ابتداء بمحمد عبده ورشيد رضا مرورا بأرسلان بمناهج وأفكار تخصّهم، وصولا إلى العالم الأندونيسي الشيخ أحمد صِدّيق، الرئيس العام السابق لجمعية نهضة العلماء الذي رأى أنّه يستحيل أن يتحققّ تقدّم بلد وازدهاره من دون أي محاولة التقليل من شأن الصراعات التي تقع داخل ذلك البلد. فكان هو بدوره يطرح في قمّة المؤتمر الثامن والعشرين لنهضة العلماء المنعقدة عام 1989مـ بِكربياك، جوكجاكرتا، فكرة متميّزة عن الأخوّة الثلاثة التي هي : أخوة إسلامية وأخوة وطنية وأخوة إنسانية من أجل تحقيق الأمان والسلام.

الأخوة الإسلامية

من التوجيهات الواردة للأمة الإسلامية قوله تعالى : “إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم” (الحجرات:10).  هذه الآية مألوفة في آذان المسلمين لا نرى أنّ منهم من لا يدرك هذا التوجيه الرباني، وهناك أدلة أخرى كثيرة تنّبهنا عن سوء الافتراق بين المسلمين وإفساد الأخوة بينهم، فعلى كل مسلم أن يتدبّرها تدبّرا، بحيث إذا واجههم صراع أو تعارض أو اختلاف في الفهوم و الآراء، فعليهم تقديم علاقة الأخوّة فيما بينهم على إكراه الغير لقبول آرائه امتثالا لأمر القرآن و السنة، وتعتبر هذه خطوة أولى.

الأخوة الوطنية

إذا كان الإدراك بمستوى الأخوة الإسلامية لم يف بتحقيق ذلك، فإن الخطوة التي تليها هي الوعي بالأخوة الوطنية. يجب أن تفهم الأمة كلها أن أمنا وسلامة بلدنا هما الأهم. لن يتحقّق ازدهار اقتصادي ولا تقدم حضاري فضلا عن عدالة اجتماعية واطمئنان في العبادة إلا بتحقيق الأمن في تلك البلد ولنا في ذلك عبرة، فإن العديد من البلدان في الشرق الأوسط لا تزال في حالة حرب حتى يومنا، فماذا سيساعد تلك الدول لتحقيق أيّ تقدّم وتنافس مع سائر الدول والظروف لا تسمح لهم ولا حتى تنفيذ العبادة بالاطمئنان ؟.  

وقد وردت أخبار تدلّ على أن النبي صلى الله عليه وسلم  أحب وطنه حبا جما، كما ورد في حديث هجرته إلى المدينة فإنه عندما توقّف والتفت إلى مكة بكى وقال :”أنت أحب بلاد الله إلى الله وأنت أحب بلاد الله إليّ ولو أنّ المشركين لم يخرجوني لم أخرج منك”  ثم نزلت الآية “وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك أهلكناهم فلا ناصر لهم”(محمد:13). وانطلاقا من هذا الأساس  فقد أصدر الشيخ هاشيم أشعري، المؤسّس والرئيس الأوّل لجمعية نهضة العلماء، فتوى وجوب الجهاد وجوبا عينيا ضد المستعمرين من أجل حماية الوطن، وقال : “حب الوطن من الإيمان”.

لقد تغلغل ذلك القول في أعماق قلوب الإندونيسيين عامة وفي المنتسبين للجمعية خاصة، فاعتبروا أن جمهورية أندونيسيا هي شكل الدولة المرضي الثابت الذي لا مجال لاستبداله بغيرها من الأشكال، ولا هناك تعارض ولا تناكر بين الإسلام والمواطنة.

الأخوة الإنسانية

هذه الأخوة هي المحطة الأخيرة عند غياب التنبّه والوعي بالأخوة الإسلامية والأخوة الوطنية. وقد ورد الأمر باحترام البشر كما جاء في قوله “ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها….”(النساء:93)، بل الله نفسه أعلن تكريمه الإنسان وتكفّل به بقوله “ولقد كرّمنا بني آدم….” (الإسراء:70). ومما يؤكّد أهمية هذه الأخوة ما جاء في ميثاق المدينة بوصفه أنموذجا رائعا عريقا للتوحيد بين البشر، وهو المثل الناجح لتنظيم دولة يتكوّن مواطنوها من شتى أنواع القبائل وومعتنقي الأديان والأمم بسلام وأمان دون تمييز بين بعضها ببعض.

هذه هي ثلاثية الأخوة التي طرحها الشيخ أحمد صدّيق التي هي -بحسب رأيه- سبيل لمحاولة تقليل النزاعات والصراعات بين البشر، وقد اعتمد صاحب الفكرة في طرحه على سند راسخ من الكتاب و السنة مما يدل على نبوغه ودقة فهمه لهذين المصدرين.   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى