تحقيقات

دور نهضة العلماء في الوسطية الإسلامية بإندونيسيا

نشأ الاعتدال  في الإسلام من خلال التحولات التّي استمرّت في تاريخ الإسلام في إندونيسيا طويلاً. ونهضة العلماء هي جمعية إسلامية تناضل من أجل الاعتدال الإسلامي بكل أشكاله، سواء من خلال المؤسسات التعليمية التي تديرها أو من خلال الأنشطة الاجتماعية والسياسية التي تمارسها. لذلك، تستحق هذه المنظمة أن يُطلق عليها اسم مؤسسة مجتمع مدني وهو أمر مهم جدًا لعملية الاعتدال في هذا البلد.

تلعب هذه الجمعية دورًا نشطًا في الحفاظ على الشبكات والمؤسسات وتقويتها التي تدعم الوسطية الإسلامية، حتى أنها تجعل من إندونيسيا مشروعًا رائدًا للتسامح مع العالم، وقيل أيضًا إنه بصفتها أكبر جمعية إسلامية في إندونيسيا، فقد لعبت دورًا مهمًا في الترويج للأفكار الإسلامية المتسامحة والسلمية.

في تاريخ استعمار إندونيسيا، يمكن وصفها بالمعتدلة، لأنها تعتمد نهجًا تعليميًا وتحولًا ثقافيًا، حيث تبدو هوية حركتها معتدلة للغاية، لا سيما عند مقارنتها بالحركة الإسلامية التي تستخدم العنف في النضال لطرد الاستعمار. في سياق التاريخ اللاحق، تعد الأكثر إنتاجية في بناء الحوار داخل المجتمع الإسلامي الداخلي، بهدف وقف موجة التطرف.  وبالتالي، لا يمكن فصل الأنشطة الإسلامية المعتدلة عن جهود بناء التفاهم المتبادل بين الثقافات.

تم بناء موقف الاعتدال لنهضة العلماء من قبل مؤسس هذه الجمعية، وهو كياهي هاشيم أشعاري. ويقال إن من أهم الدروس المستفادة من قيادته التزامه القوي بالاعتدال والتسامح الديني. خلال قيادته، يمكن رؤية التعاون الإبداعي والمتناغم مع جميع مكوّنات المجتمع. إن المثال الأكثر إثارة للاهتمام لقدرة كياهي هاشيم أشعاري هو احتضان أنواع مختلفة من المجتمع الذين كانوا في ذلك الوقت لا يزالون يستخدمون الكثير من المعتقدات المحلية ، مثل كيجاوين (Kejawen) وهو عبارة عن شكل التدين الجاوي، في الحقيقة أنه معروف كشخص متسامح مع عادات المجتمع المحلي ولا يعني هذا  أنه قد تنازل عن مبادئه. إنه ممارس حقيقي للحوار بين المجموعات، بمعنى أنه يسمع ما يقال ويهتم بما هو ضمني وراء ما يقال.

وفي الوقت نفسه، فإن موقف الاعتدال في الجمعية لا ينفصل أساسًا عن عقيدة أهل السنة والجماعة التي يمكن تصنيفها على أنها معتدلة، ورد في القانون الأساسي لنهذة العلماء أنها جمعية دينية إسلامية لها عقيدة إسلامية وفقًا لفهم أهل السنة والجماعة من خلال الاعتراف بالمذاهب الأربعة ، وهي الحنفي ، والمالكي ، والشافعي ، والحنبلي.

ويمكن تفسير عبارة “أهل السنة والجماعة” على أنها “اتباع أحاديث الرسول محمد ﷺ وإجماع العلماء”. وفي الوقت نفسه، فإن الهوية الوسطية (التوسط) هي أبرز ما يميز أهل السنة والجماعة، بالإضافة إلى الاعتدال والتوازن والتسامح حيث تُرفض كل أشكال التصرفات والأفكار المتطرفة التي تولد الانحرافات عن المناهج الإسلامية.

في الفكر الديني، يتم أيضًا تطوير التوازن (طريق وسطي) بين استخدام الوحي (النقليّة) ونسبة (العقليّة) بحيث يمكن استيعاب التغييرات في المجتمع طالما أنها لا تتعارض مع الضوابط العقائدية. وكنتيجة لموقفهم المعتدل، فإن أهل السنة والجماعة لديهم مواقف أكثر تسامحًا مع التقاليد و البيئة مقارنة بفهم الجماعات الإسلامية الأخرى. بالنسبة لأهل السنة، فإن الحفاظ على التقاليد له معنى مهم في الحياة الدينية.  بمعنى، لا يتم قبوله تمامًا، ولكنه يحاول أن يُسلم تدريجياً (مليئًا بالقيم الإسلامية).

فكرة أهل السنة والجماعة متسامح للغاية مع تعددية الفكر. تنال الأفكار المختلفة التي تنمو في المجتمع الإسلامي تقديرًا عاليًا. في هذه الحالة، تستجيب أهل السنة والجماعة بشكل كبير لأفكار المدارس الفكرية المختلفة، ليس فقط تلك التي لا تزال موجودة في المجتمع (المدارس الحنفية ، والمالكية ، والشافعية ، والحنبلية)، ولكن أيضًا للمدارس التي ولدت مثل الإمام داود الظاهري، الإمام عبدالرحمن الأوزعي، الإمام سفيان الثوري وغيرهم.

قد يكون نموذج التدين لنهذة العلماء، كما ذكرنا ، مناسبًا إذا قيل أنه إرث أولياء التسعة كالدعاة الأوائل الذي ينشرون الإسلام في إندونيسيا. ومعلوم أن جهود الأولين في استعمال عناصر غير إسلامية مختلفة منهج حكيم. ألا ينصح القرآن بطريق الحكمة وهي :

“ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ” (سورة النحل: 125).

 وفي تنشيط تنمية المجتمع، تحترم الجمعة دائمًا الثقافة والتقاليد المحلية. وينطبق الشيء نفسه على الأساليب الإقناعية التي طورها الاولياء التسعة في أسلمة جزيرة جاوة واستبدال قوة الهندوسية البوذية في القرنين السادس عشر والسابع عشر. ما حدث لم يكن تدخلاً، بل كان تثاقفًا للتعايش السلمي. هذا تعبير عن “الإسلام الثقافي” أو “الإسلام المعتدل” حيث يوظّف العلماء الكرامات للتغيير الاجتماعي  حيث يُفهم في نطاق واسع أنهم حافظوا على التقاليد المحلية واحترموها من خلال إخضاع الثقافة للقيم الإسلامية.

الوسطية في الإسلام أيضًا ذات دور رئيسيّ في الحوار بين الإسلام والحداثة. فيما يتعلق بالحداثة، فإن الإسلام ليس في وضع يسمح له برفضها أو قبولها مقلدا تماما، ولكنه لا يزال يعطي الأولوية للموقف النقدي حتى تنمو الحداثة إلى قيمة إيجابية وليست سلبية. في الوقت الذي تكون فيه الدول الإسلامية شديدة الصلابة والمحافظة تجاه التغيير ومنتجات الحداثة، فإنّ الجمعيّة في إندويسيا اتّخذته كوسيلة للدعوة من خلال تسلل روح الإسلام فيها.الآن، في الوقت الذي يستمر فيه العالم في مواجهة الصدامات الاجتماعية، كما حدث في أفغانستان والعراق وسوريا، تظهر إندونيسيا متسامحة رغم خلفية شعبها التعددي. إذ تعتبر مستقّرة مع تعايش ديانات وثقافات وقبائل مختلفة تعيش جنبًا إلى جنب وتحترم بعضها البعض. لم تعد كل منطقة تحمل هوية محلية أو عرقية ، لكنها تعيش بسلم تحت ظل بانجاسيلا (Pancasila) في إطار  الدولة الموحدة لجمهورية إندونيسيا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى