من بين هؤلاء الأعلام الذين يضْطَلِعون بدور كبير في إحياء جمعية نهضة العلماء وفي ترسيخ المنهج الديني الوسطي الذي تبنّته الجمعية، فقيه حاجيني (Kajen) يدعى سهل محفوظ، الذي تولىّ رئاستها منذ عام 1999مـ إلى أنْ وافتْه المنية عام 2014مـ. فقد وجّه الرجل عنايته الفائقة لتنمية منهج استنباط الأحكام في الوسط الداخلي لهذه الجمعية.
كان يقلق من محدودية المصادر المُتَّبعة لدى الشافعية في غير الثلاثة المتّفق عليها (القرآن والسنة والإجماع) حيث ترتكز أدلّتهم في الاستنباط الفقهي على القياس [[Sahal, 2004 : 41 فضلا عن شدة خضوعهم للالتزام الحرفي لنصوص التراث الفقهي الشافعي القديم [[Sahal, 2004 : 7-9. بينما تلك النصوص -بحسبه- وإن وجدتْ مفعوليتها في بعضها للواقع في بعض الأحيان، إلا أنّ الغالبية لم تعدْ وافية لاستجابة متطلّبات الواقع الدائم التطوّر والتغيّر على جريان تطوّر النقل التكنولوجي والتنظيمات الاقتصادية وغيرهما من عناصر الحياة مما يؤثّر في تغيّر أوضاع الحياة الاجتماعية [Sahal, 2004 : 13,18,24,29].
ومن هنا كان يشعر بضرورة اللجوء إلى فقه جديد لا يزال ملتزما ومعتمدا على المناهج المعروفة لدى الأصوليين والفقهاء من دون أن يكون محصورا على القياس، وإنما يتوسّع إلى استخدام دليل المصلحة الذي يعود في صياغته إلى مقاصد الشريعة [Sahal, 2004 : 21, 13] التي هي [1] حفظ الدين وتطويره والعمل به، [2] وحفظ العقل وتطوير آفاقه لمصلحة الأمّة، [3] وحفظ النفس والبدن من المخاطر وتلبية حاجات حياته سواء في الضرورية أو الحاجية أو التكميلية، [4] وحفظ المال والثروة بتطوير وتنويع سِلعها واستهلاكها من غير تفريط ولا إفراط، [5] وحفظ النسل بتلبية الحاجّة الجسمية والروحية [Sahal, 2011 : 216]، وبهذا فقد انتقد الشافعية في قلّة تعويلهم على المصلحة.
وفقه المصلحة في مستواه الأصولي النظري تكرّست جذوره في المصلحة المرسلة وسدّ الذرائع وفتحها والاستحسان واعتبار المآل، و في القواعد الفقهية التى لها صلة بالحكمة كدرء المفاسد مقدّم على جلب المصالح، وإذا تعارضت المفسدتان روعي أعظمهما بارتكاب أخفهما ضررا، وتصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة وما أشبه ذلك من القواعد، فعلى غرار هذه المناهج والأجهزة الاستنباطية دأب سهل لإنتاج فقه جديد يتكيّف مع الوقائع والمستجدّات التي تنزل على المجتمع الراهن.
ثم في تعويله على المصلحة وتنزيلها على الواقع اهتدى إليها بالنصوص الشرعية بطريقة أصولية مقاصدية رصنية من خلال التوفيق بين علّة الحكم ووحكمته، ومن خلال ملاحظتي أنه تتبّع مقتضيات النصوص أيضا لاكتشاف المصلحة نوعها أو جنسها وأكّدها بأقوال وتفاسير بعض الصحابة، واستأنس بأقوال الأئمة. فلم يعتمد على العقل المحض، إذ من الضروري بحسبه الاحتياط في الأخذ بالمصلحة كما يُحتاج إلى ثقة الفهم وعمق الاستنباط لئلا يقع في الحرج. لكنّه مع ذلك لم يكن يغفل ويهمل دورَ العقل، إذ من شروط المصلحة كونها معقولة في ذاتها، وعليه كان يُقدِّر أي نوع من أنواع التجارب الإنسانية، إذ الفقه عنده ليس مجرّد استنباط ولكنّه عمل فكري وبحث علمي، فمن المفترض أن يستفيد من العلوم الأخرى أداةً إضافية له كما وظَّفها العلماء القدامى، ومن تلك العلوم ما يسمّى بعلوم حديثة وتجريبية في أي مجال [Sahal, 2004 : 17, 36].
ومن أجل حساسيته للقضايا الاجتماعية كالفقر والتخلّف في التربية والتعليم والأوضاع الصحية، حاول التحرِّي و إدراك القيم والأهداف والمصالح والمقاصد المتناثرة في الفقه لتحقيقها وتجسيدها في الواقع. فكان يسلِّط الضوء على الجوانب المصلحية الجماعية أكثر مما في الفردية يعنى المصالح الاجتماعية والوطنية.
وفقه المصلحة بحسبه ينطلق من النظر والإيمان بأن كل ما يحدث في المجتمع من قضايا ومستجدّات بكل تعقيداتها هي من الاهتمامات الرئيسة للشريعة الإسلامية، ويعني ذلك أن تقديم الحلول المناسبة لها، لمسؤولية يسعى المسلمون إلى تحمُّلِها لضمان تحقيق مصالح عامّة، سواء كان في مستواها الضروري أو الحاجي أو التحسيني [Sahal, 2004 : 31].
دأب سهل محفوظ في كل أعماله هذه بشكل منسجم ومتدرّج ومتواصل بقصد تحقيق العدالة الاجتماعية في الناس التي هي من أهداف الفقه نفسه. ولذلك رأى أن كل فقه لا تكون غايته العدالة والمصلحة العامة لا بد من إخضاعه للمراجعة والتجديد، إلا ما كان من باب العبادات المحضة، ولئلا يُوْهَم أن الفقه إنّما يبيّن مصالح فردية وأخروية فحسب [Sahal, 2002 : 92 ].
نلاحظ من خلال أعماله تلك نوعًا من القدرة على قراءة الواقع والاتّصال به، يبدو ذلك من خلال محاولة الاستيعاب الشامل لمعرفة المستجدّات التي أراد معالجتها بالفقه الإسلامي، ومن خلال محاولة تشخيص الأبعاد الفردية والاجتماعية، وما يتعلّق بهما من أبعاد ثقافية وسياسية ومجالات حياتية أخرى حسب الظروف الزمانية والمكانية. قال : “لا يُنْظر إلى الفقه من حيث إنه أداةٌ لتصديق التعاليم الأرثوذكسية، ولا أداةٌ لتحديد كل واقعة من منظور أسود أو أبيض (أي المنع والجواز أو الحليّة والحرمة) فحسب، ولكن يُنْظر إليه أيضا من حيث إنّه براديغما لقراءة وفهم عالَم الحياة الاجتماعية، لتحديد موقفنا من تلك الحقائق الاجتماعية واتّخاذ إجراءات وتصرفاتٍ ما لأجلها”[Sahal, 2004 : 44].
ثم إلى جانب ذلك فقد تمسّك باستخدام منهج التداخل بين الأجهزة الاستنباطية من تطبيق القواعد الأصولية والفقهية، ومنهج التكامل المعرفي الذي تكوَّن من نتيجة فهمه أن تنمية الفقه لابد أن تنطلق من رُؤَى ومدارك تجمع بين السماوي والأرضي (أي الوحي والواقع)، تتضمَّن عنصري العقائد والأخلاق وعنصر تغيُّرِ المشاهد وتطوُّرِ الأحوال الاجتماعية [Sahal, 2004 : 24]. وقد صادف فكره هذا طموحات ابن عاشور (ت:1973مـ) لأن يكون الفقه جاريا على التبصّر بعلوم الاجتماع وحاجات الناس [Ibnu Asyur, 2006 : 174-175].
وهو بهذا المنطلق الفكري فقد نادى إلى التوازن والوسط بين النقل والعقل الذي هو من سمة فكر أهل السنة والجماعة. هذا ما كان يصطلح عليه ويردده في غير ما مرة، بـ”إعادة الصياغة في كيفية استنباط الأحكام من التقاليد الموروثة (أي في مستوى جمعية نهضة العلماء)، يعنى التحوّل في المقاربة من النصي إلى الواقعي[Sahal, 2004 : 8]”، أي التحوّل من اتّباع حرفيٍّ للنصوص الفقهية إلى قراءة واقعية مركَّبة. فهو عندي موقف وسط، ومنهج قويم في ألّا ينفصل عن الجذور التراثية و الأرثوذكسية، وفي الوقت نفسه لا ينعزل عن الواقع. وهو اللائق بأن يُنْسَب إلى شعار جمعية نهضة العلماء “المحافظة على القديم الصالح والأخذ بالجديد الأصلح”