دور جمعيّة نهضة العلماء ومنهجه التعليميّ في التديّن الوسطيّ
قبل الحديث عن جمعية نهضة العلماء فإنّ ما وراءها أحداث تاريخيّة التي كانت البلاد تحت ربقة الجمود والتقاليد وضغوط الاستعمار الهولاندي. فهذه الظروف القاسية تستقطب وعي المثقفين لبذل الجهود في المحافظة على كرامة هذا الشعب العظيم بواسطة طريق التعليم والمنظّمة. والحركة التي ظهرت في بدايتها سميت بـ”نهضة الوطن” سنة 1916 م . ثم انتشرت روح النهضة بين الشعب بعد أن وعوا بالمعانات والتخلّفات عن الشعوب الأخرى حتى ظهرت المنظمات في مجال التعليم والتحرّر.
لاستجابة تلك النهضة الشريفة, فأسّست أيضا “جمعيّة تصوير الأفكار” كوسيلة التربية الاجتماعيّة والسياسيّة لدى الناس عموما وسانتري “santri” (طلبة علوم شرعية) خصوصا. ومن ذلك المنطلق، تأسّست “جمعيّة نهضة التجّار”. وغاية هذه الجمعيّة للإصلاح الاقتصادي لدى الشعب، لذلك تعاونت جمعيّة نهضة التجّار وجمعيّة تصوير الأفكار التي تتمثّل كمجموعة الدراسة أو مؤسّسة تربويّة متطوّرة ولها فروع عديدة في مختلف المدن.
انطلاقا من ظهور مختلف اللجنات والمنظّمات الجديدة فيكون بحاجة ماسّة إلى تأسيس المنظّمة الشاملة الممنهجة لاستجابة التطوّر الزمني. وعقب الاتّصال بكثير من مجموعة كياهي “kiai” (العلماء التقليديّين)، فإنهم لا يشاركون في المؤتمر الأسلامي الدوليّ في إندونيسيا والشرق الأوسط، وأخيرا تم الاتفاق بين العلماء التقليديين لتأسيس المنظّمة الجديدة المسماة بــ”جمعية نهضة العلماء” في 31 يناير سنة 1926م الموافق لــ16 رجب 1344 هـ بمدينة سورابايا – جاوا الشرقية. وفي نفس الوقت كوّنت “لجنة الحجاز” التي هي من أسباب تأسيس جمعية نهضة العلماء حتى يتمكّن من إرسال بعض ممثليها كالوفد إلى مكة المكرّمة للمشاركة في المؤتمر الإسلامي الدولي. وقيل كانت القضيّة في ذلك المؤتمر هي المحاولة للمحافظة على نمط تعاليم إسلامية تقليدية والمذاهب الفقهية السنّيّة في الحرم المسيطر بحكومة الملك محمّد ابن سعود والسدّ على محاولة الحركة الوهابيّة بهدم معالم وآثار تاريخيّة مقدّسة ومن أهمّها مقبرة سيّد العالمين نبيّنا محمّد صلى الله عليه وسلم.
بصفة عامّة تتحرّك هذه الجمعيّة في المجال الدينيّ والتعليميّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ. وهي أكبر جمعيات إسلامية رسميّة في أندونيسيا، بل على مستوى العالم. ويبلغ عدد أعضائها نحو أكثر من 70 مليون عضو من سكّان إندونسيا وغيرها من الدول، وأحد مؤسّسيها الشهير هو حضرة الشيخ كياهي الحاجّ هاشم أشعريّ (Hasyim Asy’ari) رحمه الله (1947م/1366هـ) وفي نفس الوقت كان أوّل رئيس لهذه الجمعية. وتهدف هذه الجمعية في بدايتها لترسيخ الثقافة الإسلاميّة التقليديّة وخاصّة لمنهج أهل السنة والجماعة. وبالإضافة إلى ذالك، فإنّ هذه الجمعيّة كالجمعيّات المحلّيّة الأخرى التي تأسّست في عهد الاستعمار الهولندي حقيقة تهدف لمقاومة المستعمرين. ومن أسباب ظهور هذه الجمعية لإبراز نهضة الوعي بكيان الدولة والديانة التي عبّرت عنها بوجود الحركة الاجتماعيّة لاستجابة مصالح الدولة والعالم الإسلاميّ. ولذلك فإنّ هذه الجمعية لها دور كبير في استقلال إندونيسيا. وتدعو هذه الجمعيّة إلى التفسير المعتدل الوسطي للأحكام الشرعيّة الدينيّة وبعيدة عن مظاهر التطرّف الديني، وتطمح أن تصبح أندونيسيا دار السلام والأمان وليست محصورة بشؤون المسلمين فقط، وتتمثّل كبلد منفتح على تعدّد الأعراق والثقافات وتحضّ على التعايش بين الأديان والمعتقدات المختلفة بالسلم.
خصائص منهج التعليم بالمعاهد الإسلامية المنحازة إلى هذه الجمعية
جمعية نهضة العلماء لا تنفصل عن منهجه التعليمي الذي يتمركز في بسانترين “PESANTREN” (المعاهد الإسلامية السلفية أو التقليدية) في كافّة البلاد، ولها نمط البرامج التعليمية الخاصّة الذي يختلف عن نمطها بالمعاهد الإسلامية الحديثة والمدارس الحكومية والأهلية العامة.
انطلاقا من آمال وطموحات مؤسّس هذه الجمعية حضرة الشيخ كياهي الحاج هاشم أشعري في تأسيس المنظّمة أو الجمعيّة القادرة على تطبيق الأحكام الشرعية والعلوم الإسلاميّة على منهج أهل السنة والجماعة، فابتدأ حضرة الشيخ مبادرته العظيمة بتأسيس “بسانترين” وهو المعهد الإسلامي على الطراز الكلاسيكي (التقليدي) كمركز تعاليم دينية في جومبانج “Jombang”. وبسانترين هو المكان الخاص الذي يواظب فيه الطلاب بتعلّم العلوم الإسلامية والأخلاق ويبيتون في مسكنه، ومنهم من يواظب بالذهاب إليه من بيوتهم. ورئيس بسانترين يسمّى كياهي “Kiyai” حيث يلقّن للطلبة تلاوة القرآن الكريم وقراءة الأوراد اليوميّة ويشرح كتب التراث ويعلّم كيفيّات أداء العبادات وغيرها، وذلك يقضي الطلاب سنوات طويلة في الدراسة حسب مثابرتهم على طلب العلم بكل صبر.
وفي مسيرة تطوّر بسانترين، تحقق كل ما طمح حضرة الشيخ في ترسيخ منهجه الخاصّ التمسّك بالعقد الأشعري والفقه الشافعيّ أو على المذاهب الأربعة وطريقة الجنيديّ الصوفيّ السالك. ومن أهم الموادّ التعليمية في بسانترين هي العلوم الإسلامية المستمدّة من العلماء المؤلّفين المسلمين سواء كانوا من السلف أو الخلف عربا وعجما بشتى أنواعها من العلوم. وكذلك من أهم الوسائل الدراسية هي الكتب الصفراء “Kitab Kuning” أو المعروفة بكتب التراث. ويقرأ الطالب أمام شيخه ويتلقّى منه العلوم حرفا حرفا وكلمة كلمة بترجمة معانيها إلى اللغة الجاوية “Jawa” أو إلى اللغات المحلّيّة الأخرى. ويتعلّم الطالب الكتب بالتدرّج من المستوى الأدنى إلى الأعلى ومن جلد إلى جلد حتى يختمها ويتقنها، وتارة يجيزه الشيخ شهادة السند المتّصل إلى المؤلفين في العلوم وقراءة الأوراد. ويعتبر هذا الأسلوب التقليدي موافقا لأسلوب العلماء سلفا وخلفا.
وقد تطوّرت برامج أغلب بسانترين في العصر الحديث بإضافة وجود المدرسة إليه لاستجابة برنامج الحكومة وطريقة استقطاب رغبة كثير من الطلاب في دراسة العلوم الشرعيّة فيه حتى تتناسب مع مراحل دراستهم ومهنهم في المستقبل.
وبعد الاستقلال بسنوات، ظهر العديد من المنظّمات الإسلاميّة التي تنحاز إلى فكرة لزومة تأسيس الدولة الإسلاميّة في إندونيسيا وانضم بعضها إلى حركة DI/TII “دار الإسلام والجيش الإسلاميّ الإندونيسيّ” فترك الآثار السلبيّة لدى المجتمع التي تؤدّي إلى الاحتكاك بين الحكومة الرسميّة وهؤلاء المتمرّدين. وهذه الحركة لها فروع منتشرة في شتى الولايات والجزر، ثم قد نجحت الحكومة في القضاء عليهم بكلّ حزم ، ويعتبر ذلك من أمرّ الأحداث في تاريخ إندونيسيا. ونظرا إلى تلك التجارب التاريخية المريرة، وضع كبار الشخصيّات الوطنية منهم كبار العلماء من جمعيّة نهضة العلماء المبادئ الأساسية للقوميّة الإندونيسية المعروفة باسم بانتشاسيلا “Pancasila” (المبادئ الخمسة) مراعاة تعدّدية الديانات والتقاليد والأعراق الموجودة في إندونيسيا . وأصبحت بانتشاسيلا أساس الدولة وجميع المنظّمات في هذا البلد بلا استثناء.
ومشايخ بسانترين المنحاز إلى منهج جمعية نهضة العلماء وعوا بأهمّيّة بانتشاسيلا والقانون الدستوريّ سنة 1945 كأساس الدولة ودستورها للتعايش والمواطنة مع الغير في مجتمع إندونيسيا المعقد زيادة على المنهج الدينيّ الوسطيّ كما تقدّم ذكره. ومما لا شكّ فيه أنّ جمعيّة نهضة العلماء تمسّكت في مواقفها الواضحة منذ الوهلة الأولى في تاريخ استقلال إندونيسيا بحبّ الوطن واعتقد رجالها بأن حبّ الوطن جزء من الإيمان الذي لا يتجزّأ من الحياة، وهذا المبدأ تجسّد في روح نضالهم وتضحية أنفسهم لأجل استقلال إندونيسيا من أيدي المستعمرين آنذاك.
وهذه هي خصائص بسانترين المنحاز إلى جمعية نهضة العلماء وهي فريدة من النوع، خلافا لبعض المناهج التعليمية الأخرى التي تركّز على تعليم العلوم الشرعيّة فحسب دون ترسيخ أهمّيّة الوطنيّة في الحياة. وهذه أيضا مما جعلت الطلاب المتخرّجين في بسانترين المنحاز إلى هذه الجمعية المباركة متديّنين وسطيّين ومستعدّين لمخالطة جميع الناس في دعوتهم إلى القيم الإسلامية بالتسامح والاحترام وترغيبهم في الخيرات بأسلوب خاصّ دون ترهيبهم وتنفيرهم. والله أعلم بالصواب.