مقالات

إسلام نوسانتارا وتحديات العولمة

يطلق مصطلح “نوسانتارا” على منطقة جزر جنوب شرق آسيا التي تحتوي على إندونيسيا، وماليزيا، وسنغافورة، وجنوب تايلاند، وجنوب فلبين، وبروناي، وهي تسمية كلاسيكية ارتبطت بالمنطقة قبل التقسيمات الجغرافية الحديثة، وكان أصلها من اللغة السنسكرتية، تعنى الجزر أو الأخربيل التي تقع في خارج جزيرة جاوا التي كانت في التاريخ تعتبر مركزا للسلطة والحكومة لإمبراطورية ماجاباهيت (Majapahit)، وهي كانت آخر الإمبراطوريات الهندوسية العظيمة في الأرخبيل الملاوي، وأصبح هذا المصطلح في وقت لاحق تسمية آخرى من إندونيسيا.

ولقد اتفق المؤرخون على أن دخول الدين الإسلامي وانتشاره في إندونيسيا ليس عن طريق الفتوحات الحربية بل الرحلات التجارية على أيدي الدعاة ذات النزعة الصوفية، مع أنهم لم يتفق على بداية دخول الإسلام إليها، والأقوال فيها مختلفة لكن الأظهر يقول على أن الإسلام دخل إليها في وقت مبكر أي في القرن الأول من الهجرة، وقد تركت خطوات الدعاة الأوائل آثارًا عميقة في الثقافة الإندونيسية لا تزال حاضرة حتى اليوم في الوقت الذي أصبح كل الشيئ عالميا ودوليا لا يعترف بالحدود الجغرافية لأي بلد من البلدان بل جعل من العالم قرية صغيرة أو ما يسمى بعصر العولمة.

الإسلام والثقافة المحلية

أصبح مصطلح “إسلام نوسانتارا” في الآونة الأخيرة خطاباً حذاباً ومثيراً للاهتمام لدى مختلف الأطراف من العلماء والمفكرين والباحثين، منهم من فهمه بشكل بيّن ومنهم من لا يفهم، ومنهم من يدعمه ومنهم من يرفضه.

ومن المعروف أن الدين سواء كان دينا إسلاميا أو غيره له ارتباط وثيق بالثقافة وله علاقة عكسية بها، حيث كان الدين هو المؤثر الأول في الثقافة يعني ثقافات الأمم تختلف باختلاف أديانها وعقائدها والعكس كذلك أن أديان الشعوب تختلف باختلاف ثقافاتها وتقاليدها. ذلك مثل ما وجد في المجتمع العربي قبل الإسلام، كان له ثقافة تسمى بثقافة جاهلية بعيدة عن القيم الإنسانية، لكن حينما جاء الإسلام أحدث تغييرا جذريا في نظرة هذا المجتمع، وفي نفس الحالة ما حدث في المجتمع الإندونيسي قبل الإسلام، كان له ثقافات محلية اختلطت بالديانة  الهندوسية-البوذية وبالأديان والمعتقدات القديمة، ولكن بعد مجيئ الإسلام تغير تغييرا جوهرياً في كثير من مجالات الحياة.

واقتنع أهلها المحليون بالإسلام ودخلوا فيه أفواجا ثم انتشر بطريقة سلمية وبطريقة تدريجية حتى قام بالتأقلم الثقافي طبيعيا واعتراف الحكمة المحلية التي جاءت من جزر إندونيسيا المتنوعة العديدة، فمن هنا ظهر مصطلح “إسلام نوسانتارا” واشتهر خاصة بعد ما أعلنت جمعية نهضة العلماء الإندونيسية وهي أكبر جمعية دينية إجتماعية ليس فقط في إندونيسيا بل في العالم كله عن تبنيها نموذج “إسلام نوسانتارا” في مؤتمرها الثالث والثلاثين، والذي عقد في أغسطس 2015 سابقا.

مفهوم إسلام نوسانتارا

إن “إسلام نوسانتارا” هو عبارة عن صورة الإسلام في إندونيسيا التي تقوم على الأخلاق الكريمة واحترام الثقافات والتقاليد المحلية ونقل تعاليم الإسلام وفقا لمستوى قدرة الأمة، وفي الحقيقة ما هو إلا تكيف الدين الإسلامي تجاه المعتقدات والثقافات المحلية لأن الإسلام رحمة للعالمين وليس دينا لمنطقة معينة أو قبيلة معينة، ومع ذلك لابد أن لا ينسى أن لهذا التكيف حدودا لا يجوز تجاوزها.

والإسلام مثل هذا النمط قد ثبت منذ بداية مجيئه الذي يبنى أصوله على أساس التوسط والإعتدال والتسامح والسلام والحفاظ على سلامة ووحدة، وهو الإسلام الذي لا يعارض العادات والتقاليد الحسنة، وهو الإسلام الذي يرفض كل أشكال الفوضى والتطرف الديني المؤدية إلى نشوء العمليات الإرهابية والمحاولات المتمردة ضد الدولة الإندونسية الشرعية وهو الإسلام الذي يتخذ فكرة التعددية الدينية والعرقية والثقافية ولا ينكرها.

أعرب الرئيس الإندونيسي جوكو ويدودو صراحة عن دعمه لمفهوم “إسلام نوسانتارا” حيث يرى أنه الشكل المعتدل للإسلام المتوافق مع القيم الثقافية الإندونيسية، وبعبارة أخرى أنه شكل من أشكال التدين له ميزة خاصة الذي يختلف عن بقية أشكال التدين في الأماكن الأخرى.

قد بقي هذا النمط ناجحا على ممر العصور في اتحاد الشعب وحماية الوطن، وواجه أيضا التحديات العديدة من الإستعمار والتمرد والثورة وكذلك التحديات الداخلية فيما يتعلق بضرورية تعددية الفكر الديني وفهمه في المجتمع الإندونيسي صادرا عن تنوع النظم الاجتماعية وهيكلها، وعلى الرغم أن “إسلام نوسانتارا” هو ليس دينا أو فرقة جديدة وإنما الدين الذي جاء به نبي الله محمد منذ فجر الإسلام حتى الوقت الراهن، وأنه قائم على أساس أهل السنة والجماعة في العقائد، والمذهب الشافعي في الفروع الفقهية، والإمام الغزالي وأمثاله في التصوف، وجوهريا ليس هناك فرق بين الإسلام في إندونيسيا والإسلام في الشرق الأوسط.

في تجاوز قضية العولمة

قد تحول المجتمع العالمي كما أشير سابقا من حالة محدودة جغرافيا وتكنولوجيا إلى حالة مفتوحة لا حدود لها ويسمى هذا الوضع الجديد بعصر العولمة، والتي تدل إلى عملية تغيير جميع الحالات الإقليمية إلى حالة عالمية، حيث يتم عن طريقها دعم التواصل بين الدول في جميع العالم، ويترتب على ذلك تغيير جميع مجالات الحياة السياسية والإقتصادية والإجتماعية والثقافية وما إلى ذلك.

وهي من المصطلحات حديثة التداول في هذا العصر، تقترن في الاذهان غالبا بالجانب الاقتصادي، ولكنه في الحقيقة لا تقتصر على الجانب الإقتصادي في فعالياتها ونشاطاتها وأهدافها وان كان العنصر الرئيسي في نظرية العولمة، إلّا أنها تتعداه لتشمل الجوانب الأخرى من الحياة الإنسانية الثقافيّة والسياسيّة والإجتماعيّة، فضلا عن تأثيرها على ثقافات المجتمع الإنساني.

ولعل من أبرز تأثير العولمة على ثقافات المجتمعات هو الإنتشار الواسع والكبير لقضية فكرية خطابية التي نشأت في الغرب مثل قضية الليبرالية والعلمانية التي لا توازيها أية مصطلحات أخرى من المجتمعات الأخرى، وكذلك وسائل الأتصال والإعلام ساهمت بشكل كبير في إنتشار العولمة في المجال الثقافي وتتجلى هذه المساهمة في التواصلات الاجتماعية التي بواسطتها يتم بث أفلام وبرامج تمثل سلوكيات الكراهية ضد الإسلام.

من الصعوبة بمكان أن تمنع العولمة الثقافية من الانتشار، لأنها ظاهرة واقعية تفرض نفسها بحكم النفوذ السياسي والضغط الاقتصادي والتغلغل المعلوماتي والإعلامي التي يمارسها النظام العالمي الجديد.

نتيجة انتشار العولمة مثلا ما نشاهد بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 عرف العالم تصعيدا خطيرا في موجات الكراهية والتمييز ضد المسلمين والتجديف والازدراء بالإسلام، والتهديد لدول العالم الإسلامي، والتطاول على المقدسات الإسلامية، وتشويه صورة الإسلام والمسلمين بشكل عام.

لا شك أن هذا الواقع يؤدي من طرف المسلمين إلى ظهور الجنوح إلى الرفض المطلق للفكر الغربي والإعراض عن الاستفادة منه والتكيف معه، وتوجس المفكرين والمصلحين وأهل العلم وذوي الرأي خيفة من المذاهب والمدارس الفكرية والاتجاهات والتيارات الثقافية، واتخاذ مواقف إزاء كل ما يرد من الغرب من أفكار ونظريات، تتسم في الغالب بالشك والريبة فيها.

في أنه لا سبيل لتجاوز الواقع الذي يفرض نفسه في السياسة الدولية، في هذه المرحلة العصيبة التي يمر بها العالم، إلا سبيل التكيف مع هذا الواقع والاندماج في معتركه، والتعامل مع حقائقه بموضوعية شديدة، وبذلك ندخل في طور مواكبة متغيرات العولمة، من دون أن نضطر إلى مواجهتها، وهي المواجهة المستحيلة. وبناء على ما سبق أن اتخاذ النهج السياقي خلال التكيف مع هذا الواقع والتأقلم به والتعامل معه أمر ضروري، ذلك مثل ما جرى في “إسلام نوسانتارا” في تعامله مع الثقافات والتقاليد والأعراف المحلية في إندونيسيا، حيث يرى أن واقع الحياة دينامي يتغير من وقت إلى آخر، ويفتقر بالطبع إلى الاندماج معه مراعة القيم والتعاليم الإسلامية التي لا يجوز تجاوزها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى